• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

السياسة.. تدبير ورعاية وإصلاح

محمّد العربي الخطّابي

السياسة.. تدبير ورعاية وإصلاح

◄بالرغم ممّا قد يوحي به الأصل الاشتقاقي لكلمة السياسة من معاني الترويض والتأديب بالقهر والإكراه، فإنّ المعنى المتعارَف عليه - حينما يتعلّق الأمر بالإنسان لا بالدوابِّ - هو التدبير والإصلاح، فالسياسةُ - إذن - هي فن الحُكمِ وصناعة تدبير شؤون الدولة. وقد سمّاها ابن خلدون على وجه العموم بـ«السياسة المدنية»، وعرّفها بقوله: «هي تدبيرُ المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليُحمَل الجمهور على منهاجٍ يكون فيه حفظُ النوع وبقاؤه»، ورُسِمَت السياسةُ - على ما نقله التهانوي -: «بأنّها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال... وتُقال أيضاً على تدبير المعاش بإصلاح أحوال جماعة مخصوصة على سنن العدل والاستقامة».

وقد ارتبطت السياسة المدنية في تصوُّرِ أوائل الفلاسفة بالحِكمة واستقامة الأخلاق؛ واللفظُ اللاتيني الشائع Politica أصلُه من Polis التي تعني بلغة الإغريق «المدينة»، وكأنّهم يعنون به تدبير المدينة والدولة.

وقد أشار ابن خلدون إلى أنواعٍ من السياسات وفقاً لمفاهيم عصره؛ فمنها ما سمّاه بالسياسة العقلية وهي التي تُجري على آدابٍ خُلُقيةٍ وقوانين في الاجتماع طبيعيةٍ، وهي عند ذات اتجاهين متناقِضين: إمّا أن تقوم على قاعدة التوازن بحيث يؤخذُ فيها برعاية المصالح العمومية ومصالح السُّلطة الحاكمة على السواء، وإمّا أن يقتصر الأمر فيها على مُراعاة مصلحة صاحب السلطان وحده ليستقيم له الأمر ولو بالقهر والغلبة. وأمّا السياسة الفاضلة كما رسمها أفلاطون والفارابي فهي في نظر ابن خلدون بعيدة الوقوع، وكلام الفلاسفة فيها إنّما هو على جهة الفرض والتقدير.

وأمّا السياسة الشرعية فإنّها تقوم في مبدئها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب الطاقة، وهي لا تسلم مع ذلك من هوى المتغلِّبين من ذوي السلطان كما تشهد وقائع التاريخ في كثيرٍ من الدول والممالك. ويُبرِز ابن خلدون بكثير من الإصرار أهمّية العصبية والشوكةِ (أي القوّة العسكرية) في قيام الدول واستقرار سياسة الحُكمِ مهما كان نوع هذه السياسة.

وقد اختصَّ الفقهاء ببيان أُصول السياسية الشرعية بحسب ما اقتضاه نظرُهم واجتهادهم في فهم النصوص واستنباط الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع مع مراعاة أحوال زمانهم السياسة والاجتماعية والاقتصادية. وأشهر من ألّف في هذا الفن القاضي أبو الحسن الماوردي البصري صاحب كتاب «الأحكام السلطانية» الذي يُعَدّ أوسع المراجع في كلّ ما يَختص بنُظُمِ الدولة الإسلامية. وقد حصر الماوردي قواعد السياسة في أربعة أمورٍ فصَّلها في كتابه «تسهيل النظر وتعجيل الظفَر» وهي:

1- عِمارة الأرض.

2- حراسة الرعية.

3- تدبير الجند.

4- تقدير الأموال دخلاً وخَرْجاً مع رُجحان الفائض على العجز في الموازنة.

وسنرى بيانَ ذلك بشيءٍ من التوسُّع في النصوص التي اخترناها وهي تتضمن مختلف آراء العلماء والحكماء في أُمور تدبير الدول وما يتعلق بها من أحوالِ الاجتماع الإنساني وشؤون المال والاقتصاد والصناعات وسائر ضروب المعاش. وسنقتصر فيما يلي على إبداء بعض الملاحظات على نُظُم الحُكمِ والسياسة في العالم الإسلامي القديم.

وأوّل ما يَعِنّ لنا من ذلك هو أنّ جهودَ الفقهاء والحكماء المسلمين اقتصرت أو كادت تقتصر في الغالب على تقرير طائفةٍ من المبادىء الخلقية العامّة المستمدة من الشرع والعقل كالعدل والمساواة والشورى والأمانة في الولايات والأموال مع إبراز قيمة هذه المبادىء والحَثّ على مراعاتها والعمل بها من غير أن يُؤسّسوا عليها نظرية سياسية متكاملةً أو يَستَنبطوا منها نَسَقاً فكرياً متماسكاً ينحو إلى اقتراح بناءٍ يؤفِّرُ القدر الضروري من أدوات المُراقبة والتنفيذ كي يكتمل بها مفهوم الدولة وتتبيّن فيها حقوقُ كلِّ طرفٍ وواجباتُه بصورة تكفُل بلورةَ تلك المبادىء العامّة وإخراجها من القوّة إلى الفعل فلا تبقى مجرد قيم جميلة يتغنى بها الناس ويتطلّعون إليها وتتداولها الأهواء تفسيراً وتأويلاً من غير أن تقوم على حفظها ودعمِها وحراستها مؤسساتٌ ثابتةٌ وضوابط مقرّرةٌ يلتزم بها الحُكّام والمحكومون على السواء وتنتَظِم بها علاقاتُهم.

بدأت تلوح في الأُفق بعد الحقبة الزمنية السابقة مظاهر الاستبداد والتغلُّب والقهر المؤدّية إلى اشتعال الفتن وضياع المصالح؛ وبسبب ذلك اكتنف الغموض مفهوم الدولة نفسها، فهو تارة يُراد به البيت الحاكم، وأحياناً يلتبس بالدعاوي المُبهمة المستندة على الطائفية وتنازع الأهواء والفِرَق من غير سند شرعي أو عقلي، وبذلك بقيت المبادىء الخُلُقية التي سنّها الإسلام في مجال الحُكم ورعاية الحقوق موضوعاً للتأويلات التعسّفية ومبرراً للممارسات الفردية من غير أن يتهيأ لبلورة تلك المبادىء بناءٌ تدعمه مؤسساتٌ ثابتةُ وقابلة للتطوّر والنمو تجسِّدُ مفهوم الدولة والحكم وتُعيّن اختصاص السلطان العمومية وعلاقاتها بالرعية، وتُبيِّن الحقوق والواجبات وفقاً لمبادىء العدل والمساواة والشورى والأمانة والنزاهة وما يتعلّق بها من تقديم المصلحة العامّة، وسَدِّ ذرائِع الفساد، وحِفظِ الضروريات، واحترام كرامة الإنسان، وغير ذلك من الأُصول التي وردت في الشريعة مجمَلَةً وتُرِكَ أمرٌ تفصيلها للناس من باب التوسعة عليهم ولكونهم أدرى بشؤون دنياهم ولجريان سُنّة التغيُّر والتطوّر على أزمانهم وأماكن اجتماعهم.

وإذا كان العلماء والحكماء المسلمون قد بذلوا جهوداً فكرية محمودة في ميدان التعريف بالقيم والمزايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتوفّر عليها القانون الخلقي الإسلامي المُجمل في أُصول الشريعة، فإنّهم لم يولوا إلّا قدراً ضئيلاً من العناية لبحث المسائل الجوهرية والشكلية المُتعلّقة بنُظُم الحُكمِ والسياسة في الاتجاه الذي يُتيح قيام الدولة العادلة على أُسسٍ موضوعيةٍ تكفل لها الاستمرار والتوازن والفاعلية من طريق ضبط الحقوق والواجبات وتوضيح العلاقات بين الحاكمين والمحكومين؛ وكم ضاعت من الجهود الفكرية في خصومات العلماء وأصحاب النظر في مسائل كلامية لا تُحِقُّ حقّاً ولا تُبطِل باطلاً ولا تُفيد جمهور الأُمّة في نيل حقٍّ أو أداء واجب، هذا إن لم نقل إنّ خلافات المتكلّمين ومُجادلاتهم العقيمة قد ولَّدت الفرقة، وأدَّت إلى الفتنة. أمّا الفلاسفة فإنّ منهم من آثر سلوك الطريق السهل الذي لا يؤدّي إلى غايةٍ تنفع الناس في معاشهم وصراعهم اليومي، فمنهم من توغّل في أدغال ما وراء الطبيعة ومتاهاتِ المنطق، ومنهم من تحصّن داخل أسوار المدن الخيالية الفاضلة متنكّراً للواقع الإنساني الذي يتمثّل فيه الخيرُ والشرّ، والعدلُ والظلم، والإحسانُ والإساءة، والفضيلة والرذيلة، ويتطلّب من النظر العقلي ما يعالج هذا الواقع ويقيم للاجتماع الإنساني بنياناً من الأفكار العملية والضوابط السياسية والمناهج الخُلقية ينتظم بها أمرُ الناس في حياتهم وسعيهم وفي علاقات بعضهم ببعض.

وإذا كان ابن خلدون في نقده التاريخي وتحليله لطبائع العمران البشري قد وضع يده على كثيرٍ من محاسن الحُكم ومساوئه في الدول الإسلامية، إلّا أنّه لم يستخلص من ذلك نتائج فكرية يمكن أن ينبني عليها منهاجُ الحكم الصالح والدولة العادلة التي تُحفَظ فيها حقوقُ الناس وتتبيّن واجباتُهم الفردية والجماعية من غير شَطَطْ ولا إسراف، والمثالُ على ذلك أنّ ابن خالدون حينما تطرَّق إلى بيان أسباب خراب العمران ذكر من بينها الظلم ورسم له صورة مخيفة ذات أبعاد وتأثيرات سياسية واجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة يؤدّي تفاحشها إلى تقويض أركان الدولة وفساد المجتمع، غير أن لم يرتِّب على تحليله المنطقي نتائج تُفضي إلى تجنُّبِ هذا الانحراف بطريقة عملية ومستمرة تحكُمها ضوابط محدّدة وربّما كان هذا النقص في حقّ ابن خلدون وأضرابه من مفكّري الإسلام راجعاً إلى الخشية من بطش ذوي السلطان والمُستبدّين بالحكم في زمانهم.

ولاشكّ أنّ هذه الثغرة في بنيان الفكر السياسي قد ألقت بظلالها الثقيلة على الدول الإسلامية عبر العصور والأزمان بحيث يمكنُ عدُّها من الأسباب التي أدَّت إلى تدهور هذه الدول وانحطاطها ووقوعِها تحت وطأة الحكم الاستعماري الغربي وما أدّى إليه من احتكاكِ المسلمين بغيرِهم على صعيدِ الفكر والعادات والمفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما نتج عن هذا الاحتكاك من صراع ما يزال قائماً إلى اليوم بين دُعاة التجديد والعلمانية وأنصار الأصالة الإسلامية بكلِّ ما يروِّج حول هذا الصراع من مضارباتٍ ومُمارساتٍ لا تكادُ تُفيد في تقويم أنظمة الحُكمِ وضبط المناهج السياسية وتوجيها في الطريق الصحيح.

فأنصار الديمقراطية السياسية على النمط الغربي قلّما يتنبّهون إلى العوامل الزمانية والمكانية وما أدّت إليه من تطوّر الفكر السياسي في دول الغرب التي قطعت منذُ عصر النهضة مراحل تاريخية تدرّجت من الإقرار بقيمة الإنسان وعمله الحاسم في تقدُّم الحضارة والفكر، إلى الإصلاح الديني، ثمّ إلى الثورة العلمية ومنها إلى الثورة الصناعية وصولاً إلى الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي دعا إليها ومهّد لها رجالُ الفكر من الفلاسفة وعلماءِ السياسية والقانون وغيرهم قبل ترجمتها إلى دساتير وقوانين وضوابط.

أمّا دُعاةُ الأصالة الإسلامية فإنّ من بينهم مَن لا يكاد يتجاوز نطاق الأفكار المكرورة والأقاويل المُعادة التي لا تفيد إلّا قليلاً في بناء فكرٍ سياسي مُتجدِّدٍ يقوم على أساس القيم الخُلقية الإسلامية المجملة في الكتاب والسنّة مع مُراعاة واقع المجتمعات الإسلامية وطبيعة التغيُّرات المادّية والمعنوية التي يعرفها عصرنا هذا وتجري على وتيرة سريعة تؤثِّر أبلغ التأثير في سلوك الناس ومعاشهم وتطبع علاقات الدول والأُمم والشعوب بطابع الحيرة والتحدي والصراع في ميادين التنافس العسكري والعلمي والتكنولوجي والإعلامي في عالم تتدهور فيه قوانين الأخلاق القديمة باستمرارٍ، ويتّجه المعمور قُدُماً إلى فقدان الحدِّ الضروري من تكافؤ القُوى فضلاً عن اختلال التوازن المادّي والمعنوي الذي يُلحق بالغ الأضرار بالنفس الإنسانية إذ يحرِمها من الطمأنينة ويسلها عزيمة النظر بتفاؤلٍ إلى مستقبل الحضارة، يُغرقها في المادّية الهمجية التي لا حدود لها ولا هدف إلّا إشباع الشهوات.

وعلى ضوء ما تقدّم يمكن القول إنّ دول العالم الإسلامي التي قطعت أشواطاً لا يُستهان بها في ميادين التقدّم الكمّي والنوعي الذي من شأنه أن يُعينها على التخلّص من العادات الفكرية السيِّئة وأن يؤهّلها للمساهمة في إعادة التوازن المادّي والروحي لحضارة الإنسان، على أن يسبق ذلك إصلاحُ أنظمة الحكم وقوانين التدبير السياسي في الاتجاه الذي يحفظ كرامة الإنسان، ويُشعره بقيمته، وينزع منه الخوف والوَجل والتردّد والحيرة، لتنطق قُدراته العقلية ومشاعرُه النفسية فيطمئن قلبه بالإيمان الصحيح ويتحرّر ذهنُه وفكرُه من سلطان التقليد الأعمى، فإنّه لا إيمان بدون تثبّت، ولا تثبّت بدون ميزان العقل، وليس للعقل من حدود إلّا ما يَرسِمُه العقل منها، فهو يقف بنفسه حيث ينبغي له أن يقف من غير إكراهٍ خارجي، هو يتعطَّلُ إذا أُرْغِمَ على السكون فتتعطّل معه الإرادة، وكلّما فُقِدَت الإرادة فَسَد العملُ وخاب السعيُ وضاقت الحياة►.

 

المصدر: كتاب موسوعة التراث الفكري العربي الإسلامي (الجزء الأوّل)

ارسال التعليق

Top